Wednesday, June 13, 2007

عفن الاحتلال

عفــــــن الاحتـــــــلال - 40 سنة سيئة
بقلم: يـوري افنيري
By: Uri Avnery
ترجمة
: مجيد البرغوثي
Majeed Al-Barghouthi

11/6/2007
___________________________
جاءت الراحة للمتعبين
والسكينة للكادحين
ليلة شاحبة تغمر الحقول
في (وادي جزريل) – مرج بن عامر
الندى تحتها والقمر فوقها
من كيبوتز بيت- الفا1 الى موشاف نحالال2.

هذا ما كنا نتغنى به حين كنا شباباً. الآن يبدو ذلك وكأنه استعرض تليفزيوني للحنين للماضي، شباب الخمسينيات يرددون أغنيات ريادية.
الأفكار تسرح. من كان هؤلاء الرواد، أول من غنى هذه الأغنيات؟
لقد جاؤا من بيوتات ثرية من سينت بيترسبورغ، ومن بلدة يهودية ضمن منطقة "جاليسيا"، أبناء وبنات أساتذة جامعات في ألمانيا. كان بإمكانهم الإبحار إلى أمريكا، كمعظم المهاجرين آنذاك. ولكنهم انجذبوا الى بلد شرقية نائية، إلى مغامرة وطنية عظيمة. لقد عاشوا في فقر مدقع، يؤدون أعمالا شاقة تحت شمس لا ترحم لم يعتادوا عليها، وكانوا يحلمون بمجتمع إنساني كامل.
كانوا مثاليين حقيقيين. لم يخطر لهم أنهم يؤذون بشراً من شعب آخر (!). كان العرب بالنسبة لهم جزءا من المشهد الطبيعي الرومانسي(!). إعتقدوا بكل براءة أنهم كانوا يجلبون البركات والتقدم لكل سكان البلاد(!).
كما نراهم اليوم، بعد أربعة أو خمسة أجيال، يبدون لنا مختلفين تماما. براءتهم اصبحت في عالم النسيان. تبدو للكثيرين نفاقا طبقيا، وغطاءً للصوصية والظلم.
تلك واحدة من نتائج 40 سنة من الاحتلال. إن المستوطنين الحاليين يزعمون أنهم خلَف ( بفتح اللام) لهؤلاء الرواد الذين عاشوا في العشرينيات والثلاثينيات. ويقولون عن أنفسهم إنهم رواد الحاضر. وتتوقع عصابات السلب العنيفة هذه منا أن نرى الرواد القدامى على أنهم أسلافهم الروحيون.
عندما نضيف كل الأضرار التي سببها لنا الاحتلال – لنا نحن أيضا، وليس للضحايا المباشرين، سكان المناطق المحتلة، - دعونا لا ننسى هذا: إن الاحتلال يسمم الذاكرة الوطنية. إنه لا يشوة الحاضر فقط، بل الماضي أيضا، ليس أمام أعين العالم فحسب، بل أمام أعيننا نحن أيضاً.
* * *
يكفي أن نرى ما فعله الاحتلال للدين اليهودي.
في طفولتي، علموني في البيت ان اليهودية ديانة إنسانية، وهي " نور لغير اليهود". اليهودية تعني نبذ العنف، واعتبار الروحاني أعلى من القوي، وتحويل العدو إلى صديق. اليهودي يُسمح له بالدفاع عن نفسه – "إذا جاء أحدهم لقتلك، اقتله أولا"، وفق تعاليم التلمود – ولكن ليس كعاشق للعنف او ثمِل بالقوة.
ماذا تبقى من ذلك؟
أصدقائي القلقون أرسلو لي بالبريد الإلكتروني مؤخراً اقتباسات، توقف شعر الرأس، من فتوى أصدرها الحاخام مردخاي الياهو، الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين ( السفارديم3) والزعيم الروحي للمستوطنين وللمعسكر الصهيوني الديني كله. في رسالتة الى رئيس الوزراء، أفتى الحاخام بأنه من غير المسموح به التعاطف مع السكان المدنيين في غزة إذا كان ذلك يعرض حياة الجنود الإسرائيليين للخطر. وفسر ابنه شموئيل، هذه الفتوى نياية عن والده قائلا: إذا كان قتل 100 عربي لا يكفي لوقف إطلاق صواريخ القسام على إسرائيل، فإنه يجب قتل ألف (1000) واذا لم يكن ذلك كافياً، فاقتلوا 10,000 و 100,000 وحتى مليون. كل ذلك لوقف اطلاق صورايخ القسام التي لم تنجح طوال السنوات الماضية في قتل اثني عشر يهودياً.
ما هي العلاقة بين هذه النظرة "الدينية" والرب الذي وعد ( في سفر التكوين 18) بعدم تدمير "سدوم" اذا وُجدَ فيها عشرة أشخاصٍ صالحين؟
وما الفرق بين ذلك المفهوم الأخلاقي وبين النازيين الذين كانوا يقتلون 10 رهائن مقابل كل جندي ألماني يُقتل على أيدي المقاومة؟
إن فتوى الحاخام لم تثر ردّة فعلي. المثير هو أنه لم يكن هناك أي احتجاج عليها، لا من رعيته ولا من عامة الجمهور. إن عدد الحاخامات الذين يؤيدون علنا مثل هذه الاساليب ارتفع ليصل إلى المئات. ومعظمهم من المستوطنات. ان هذه نظرة " دينية" نمَت في الجو المسموم الذي أوجدهُ الاحتلال، دين الاحتلال. إنه يُلحق العار بالدين اليهودي، في الحاضر والماضي.
لا عجب في أن يتبرا شخص ذو ضمير ديني قوي مثل أبراهام بورج، الرئيس السابق للكنيست ورئيس الوكالة اليهودية هذه الأسبوع من الصهيونية ويطالب بإلغاء تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية.
* * *
لم يعد شيئاً جديداً القولُ بأن الاحتلال يُدمر الجيش الإسرائيلي.
لا يستطيع جيش أن يؤدي رسالته في الدفاع عن الدولة ضد أعدائها المحتملين حين يظل مشغولا لعقود كقوة بوليسية استعمارية. يمكن للمرء أن يختار أسماء جذابة لفرقة الموت – فرقة المانجو – وحدة الخوخ – ولكنها تظل كما هي: أداة للقتل الوحشي وللظلم.
إن الضابط الذي يخطط اليوم بأسلوب المافيا لقتل أحد كبار المتتشددين بعملية سرية، في حي القصبة في نابلس، لن يكون قادراً غداً على قيادة فرقة دبابات ضد عدو متطور. إن الجيش الذي يطلق النار على رماة الحجارة، ويطارد الأطفال في أزقة مخيم بلاطة للاجئين أو يلقى قنبلة زنة طن على مبنى سكني لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها الى قوة ذات كفاءة في ميدان قتال حديث في حرب تكون هي الملاذ الاخير.
لا حاجة إلى قراءة هذا في تقرير لجنة فينوغراد. يكفي أن نقارن بين قادة 1967 – اشخاص مثل إسحاق رابين، إسرائيل تال، عيزرا وايزمان وداود أليعازر وماتي بيليد – مع نظرائهم اليوم. بعد 40 سنة من القيام بوظيفة حقيرة ضد شعب أعزل، لم يعد الجيش يجتذب الشباب الذين يتسمون بتفكير أصيل وبدوافع عالية وبالجرأة والإمكانيات. إنه يجتذب المتوسطين من بين المتوسطين.
في حرب الأيام الستة كان لدينا جيش صغير متطور دافع عن الدولة من داخل الخط الأخضر، الذي وصفه آبا إيبان ذات مرة بأنه "حدود اوشفيتز". هذا الجيش احتاج بالكاد إلى ستة أيام للتغلب على أربعة جيوش معادية. ومنذ ذلك الحين، وبعد توسيع المنطقة، وتحقيق الحدود الآمنة والمثالية، أصبح الجيش أكبر بكثير، وميزانيته تضخمت عدة مرات. والنتائج يمكن أن تُرى في حرب لبنان الثانية.
من وجهة نظر عسكرية، يشكل الجيش تهديداً خطيراً على أمن الدولة.
* * *
إن ذلك يُبقى المحكمة العليا. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن عامة الشعب تهزأ بالكنيست وتحتقر الحكومة، ولكنها تحترم المحكمة العليا كمعقل للديمقراطية وكمصدر للفخر.
في الآونة الأخيرة، أصبح من الواضح أنه لا يوجد أساس صلب لذلك الرأي. فبعد لحظات من تقاعد كبير القضاة أهارون باراك من المحكمة، بدأ النظام القضائي كله بالغرق في مستنقع من المكائد والاتهمامات المتبادلة وحتى التآمر. ليس في مدونات الانترنت فحسب ولكن عبر تصريحات وزير العدل الجديد، الذي عيَّنه رئيس وزراء جمدته فضائح الفساد الشخصي.
كيف يحدث هذا؟
مرت سنوات الآن والمحكمة العليا تعيش في عالم من الوهم. أغمض القضاة أعينهم عما يفعلون. فينما هم يعتقدون أنهم عماد الليبرالية والديمقراطية، سمحوا بأعمال قتل خارج القانون. أغمضوا أعينهم بينما أصبح التعذيب أمراً روتينياً. فأوجدوا جبالاً من الجدل السفسطائي بأن الجدار الوحشي أساس للأمن، محاولين حجب حقيقة أن هدفه الأساس هو مصادرة ألأراضي لصالح المستوطنات.
عندما نشرت محكمة العدل الدولية رأيها البسيط والواضح وغير القابل للنقاش بأن الجدار يخرق القانون الدولي وعدة اتفاقات وقعتها إسرائيل أيضا، اكتفت محكمتنا العليا بمجرد تجاهلة.
إن محكمة تكذب على نفسها في قطاع واحد، لا يمكن أن تحافظ على نزاهتها في قطاع آخر. لقد تم الحط من شأن "معقل الديمقراطية" وربما ينهار بكاملة.
وفي نفس الوقت، فإن كِتاب القوانين ملطخ بالتشريعات العنصرية - بدءاً من القانون الذي يمنع المواطنين الإسرائيليين من العيش في إسرائيل مع شركاء الحياة من الفلسطينيين ( ازواجا وزوجات)، الى التشريع الذي لقي هذا الاسبوع موافقة أولية في الكنيست، والذي يسمح لثمانين من أعضاء الكنيست بإقصاء عضو من الأعضاء اذا تفوّهَ، سواء في الكنيست أو خارجة، بانتقاد وزراء الحكومة أو كبار قادة الجيش.
* * *
لا يمكن نفي هذا: 40 سنة من الاحتلال غيرت وجه إسرائيل على نحو يتجاوز امكانية التعرف عليه.
ذلك واضح في جميع مناحي الحياة. كلها أصيبت بالتلوث.
الشباب الذين هم في سن الثامنة عشرة، ومعظمهم ممن تربوا على أيدي آباء محترمين ليكونوا كائنات إنسانية على خلق، يؤخذون الى الجيش، فيدخلون ضمن الثقافة الهامشية الوحشية لوحداتهم، ويُلقنون تعاليم تبرر كل فعل وحشي ضد العرب. وعدد قليل ونادر من الأفراد يستطيع تحمل مثل هذا الضغط. وبعد ثلاث سنوات يترك أغلبهم الجيش كرجال أجلاف متبلدي الحس. إن الوحشية في شوارعنا، والقتل الروتيني حول مراقص "الديسكو"، وانتشار الاغتصاب والعنف ضمن الأسرة – كل ذلك ناجم، بلا شك، عن تاثير الواقع اليومي للاحتلال. وفي نهاية المطاف، فان نفس الأشخاص هم الذين يفعلون ذلك.
إن الشرطي الذي يرسَل إلى نقاط التفتيش في الخليل أو حوارة، والذي يعامل السكان هناك كمخلوقات دونية، والذي يتصرف بسادية أو يغض النظر عن ساديَّة رفاقة – هل سيتحول إلى شخص آخر حين يعود في اليوم التالي إلى تل أبيب، أوحيفا أو شفا عمرو؟ هل سيصحو في اليوم التالي، ليصبح، بمعجزة، خادماً مخلصاً لمواطنيه في مجتمع ديمقراطي؟
لقد مضت عدة سنوات الآن، والخدمات الأمنية، والشرطة والجيش يكذبون جميعاً فيما يتعلق بشأن الأحداث التي تجري في المناطق المحتلة. لقد أصبح الكذب روتينا. وقلة من الصحفيين في العالم يتقبلون ما يقال لهم الآن دون مناقشة. وحين يصبح الكذب هو العرف السائد في قطاع واحد، فان التزييف لا يتوقف عند هذا الحد. فالكذابون في الجيش والشرطة وغيرهما من أجهزة الخدمات اعتادوا على الكذب بشأن مسائل أخرى أيضا.
في" المناطق" أصبح للاحتلال عالمُه. فالمسئولون العسكريون الحكوميون يخلعون زيهم الرسمي وينخرطون في أعمال تجارية في الظل. وبارونات الرأسمالية يحققون الأرباح من وراء علاقاتهم بهؤلاء. وبالطبع فإن هذا ليس هو مصدر الفساد الذي أصبح لعنة الدولة، ولكنه بالتأكيد عامل يساهم في الفساد.
* * *
الاحتلال يسبب العفن الذي يتغلغل بدوره في ثنايا الكيان الوطني الحي.
بعد 40 سنة، هناك تشابه قليل بين دولة إسرائيل كما هي عليه اليوم وبين الدولة التي رآها المؤسسون بعين العقل: نموذجاً للعدالة الاجتماعية والمساواة والسلام. حلمَ المؤسسون بمجتمع مستنير، علماني، ليبرالي، متطور اجتماعيا، مع اقتصاد مزدهر يعود بالفائدة على الجميع. ولكن الواقع، كما نعرف، جاء مختلفا جداً جداً.
صحيح أنه لا يمكن لوم الاحتلال على كل شيء. فقبل عام 1967 أيضا، كانت الدولة بعيدة جداً عن الكمال. ولكن الجمهور كان يشعر آنذاك أن الوضع مؤقت. ويمكن تصحيح وتحسين الاشياء. وحين تحولت جمهورية أسرائيل الى امبراطورية إسرائيلية واعدة، بدأ التدهور الدارماتيكي.
* * *
بانتهاء حرب الأيام الستة، حيَّانا العالم كله. داوود الصغير الشجاع فاز على جوليات. الآن يُنظر الينا نحن على أننا جوليات المتوحش عديم القلب.
إن مقاطعة إسرائيل التي أعلنت عنها عدة منظمات أجنبية يجب أن تشعل الضوء الأحمر. في إعلان الاستقلال، كتب توماس جيفرسون: يجب على كل أمة أن تتصرف "باحترام لرأي الإنسانية". لم يكن ذلك مسالة أخلاقية فقط، ولكنه بديهية عملية أيضاً. فحتى نحافظ نحن على احتلال يخرق القانون الدولي فإننا نبصق في عين الإنسانية المستنيرة.
إن إسرائيل تستثير توقعات مختلفة عن تلك التي تستثيرها الكونغو أو السودان (!). ولكننا لعدة سنوات مضت وحتى الآن، يرى مئات الملايين من الناس بأعينهم يومياً جنود الاحتلال مدججين بالسلاح حتى الأسنان وهم يسيئون معاملة السكان المدنيين العزل. إن التأثير التراكمي لهذا يصبح واضحاً الآن.

يمكن للمرء أن يعامل الرأي العام باحتقار، وفقا لفحوى سؤال ستالين: كم فرقة يملك البابا؟ ولكن ذلك أمر غبي. فالرأي العالم العالمي يعبر عن نفسه بألف طريقة مختلفة. إنه يؤثر على سياسات الحكومات والمجتمع المدني. إن محاولات المقاطعة ليست سوى أحد الأعراض المبكرة.
ولكن بعد كل الاشياء السيئة التي جلبها الاحتلال على إسرائيل، في الداخل والخارج، هناك شيء يقلق كلاً منا. كل إنسان يريد أن يعتز ببلده. إن الاحتلال يحرمنا من هذا الأمر.
* * *
في الذكرى الأربعين لاحتلال القدس الشرقية، أرادت محطة تليفزيون أجنيبية مقابلتي في الحي الإسلامي من المدينة القديمة. مشينا في طريق الآلام، طريق الصليب. كان الشارع خاليا تقريبا. أصحاب المحلات التي تبيع التحف الأثرية والسجاد الثمين والمواد التذكارية وقفوا أمام أبواب محلاتهم، مفعمين باليأس، وحاولوا إغراءنا بالدخول ..
بين وقت وآخر، كانت تمر جماعات صغيرة من السائحين. كل مجموعة كانت مصحوبة بأربعة من رجال الأمن ببدلات بيضاء، إثنان في الأمام واثنان من الخلف. وكل منهم يحمل في يدة مسدساً محشواً بالذخيرة، وهم على استعداد لإطلاق النار خلال جزء من الثانية. هكذا كانوا يسيرون في الشارع.
ذلك هو واقع ( القدس الموحدة من جديد، وغير القابلة للتقسيم، عاصمة إسرائيل إلى الأبد) ، كما يقول الشعار الرسمي.
ذلك هو واقعها بعد 40 سنة من تحريرها.
_________________________________________________

* يوري افنيري: كاتب وصحافيّ إسرائيلي، نائب سابق، مؤسس حركة غوش شالوم - كتلة السلام
توضيحات من المترجم
1- 2: بيت ألفا وموشاف ناحالال: من التعاونيات التي أقيمت في العشرينيات على أرض فلسطين المغتصبة.
3- السفارديم: اليهود المهاجرون من اسبانيا والبرتغال أساسا، ثم أطلقت الكلمة على اليهود الشرقيين ككل.
4- علامات التعجب (!) اعتراض من المترجم على الافكار والايحاءات المقترنة بها.

****************************************
رابط المقال في النشرة السياسة الأمريكية، كاونتر بانش
http://www.counterpunch.org/avnery06112007.html